يا سلام سلِّم، الحائط بيتكلم!
في شهر رجب من سنة 781 هجرية، اتفقت حادثة مستغربة: وهي أن رجلاً يعرف بابن الفيشي دخل إلى منزله بالقرب من الجامع الأزهر، فسمع صوتاً من جدار بيته يقول له:
اِتقِ الله وعاشر زوجتك بالمعروف !
فظنَّ أن هذا من الجان، فإنه لم ير شيئاً. وحدّث أصحابه بذلك، فصاروا معه إلى بيته، فسمعوا الكلام من الجدار. فسألوا عما بدا لهم، فأجابهم المتكلم من غير أن يروا شيئاً. فغلب على ظنهم أن هذا من الجان، وأشاعوه في الناس، فارتجَّت القاهرة ومصر، وأقبل الناس من كل جهة إلى بيت ابن الفيشي لسماع كلام الحائط، وصاروا يحادثون الحائط ويحادثهم. فكثر بين الناس قولهم:
يا سلام سلِّم، الحائط بيتكلم!
وكاد الناس أن يفتتنوا بهذا، وجلبوا إلى ذلك الجدار من المال شيئا كثيرا.
فركب محتسب القاهرة(1)محمود العجمي إلى بيت ابن الفيشي هذا ليختبر ما يقال، ووكَّلَ با بن الفيشي أحدَ أعوانه. ووقف عند الحائط وحدّثه فحادثه. فأمر بهدم الحائط. فلما ير شيئا. فعاد إلى بيته وقد كثر تعجّبه.
وازدادت فتنة الناس بالحائط. وبعث المحتسب من يكشف له الخبر:
هل انقطع الكلام بعد تخريب الحائط؟ فوجده الرجلُ يتكلم كما كان قبل خرابه.
فتحيّر من ذلك. وكان هذا المحتسب شهماً جريئاً، قد مارس الأمور، وحلب الدهر أشطُره. وكان لا يتحرك حركة إلا حُمد عليه، ولا باشر جهة وقْْفٍ إلا عَمُر خرابُه، وإذا باشر حسبة القاهرة رخصت الأسعار، فإذا عُزِل ارتفعت، فتقف العامة وتطلب إعادته ليُمْن إقباله.
فلما عاد قاصده إليه، وأخبره بأن الكلام مستمّر، قام من فوره ومعه عدة من أصحابه حتى جلسوا عند الجدار، وأخذوا في قراءة شيء من القرآن، ثم طلب صاحب البيت وقال له:
قل لهذا المتكلم، القاضي العجمي يسلم عليك.
فقال: يا سيدي، الشيخ القاضي يسلم عليك.
فقال الجدار: وعليه السلام ورحمة اللّه وبركاته.
فقال المحتسب: قل له، إلى متى هذا الفساد؟
فأجابه: إلى أن يريد اللّه تعالى.
فقال: قل له هذا الذي تفعله فتنة للناس، وما هو جيد.
فأجابه:
ما بقي بعد هذا كلام.
وسكت، وهم يقولون له: يا سيدي الشيخ! فلم يكلمهم بعدها.
وكان في صوته غلظة يوحي بأنه ليس كلام إنس. فلما أيس الشيخ العجمي من مكالمته، قام عنه وقد اشتدت فتنة الناس بالحائط حتى كانوا يتخذوه معبودا لهم. وغلوا فيه كعادتهم، وزعموا له ما شاءوا من تُرَّهاتهم، وحمل إليه الأمراء والأعيان المأكل وغيره، والمحتسب يدّبر في كشف الحيلة.
ثم ركب المحتسب يوما إلى دار ابن الفيشي، وقبض عليه وعلى امرأته، وعاد بهما إلى داره. ومازال يستدرجهما حتى اعترفت المرأة بأنها هي التي كانت تتكلم، وأن الذي دعاها إلى ذلك أن زوجها كان يسيء عشرتها، فاحتالت عليه بهذه الحيلة لتوهمه بأن الجان توصيه بها. فتمت حيلتها عليه، وانفعل لها، فأعلمته بما كان منها، فرأى زوجها أن تستمر على ذلك لينالا به جاهاً ومالاً، فوافَقَتْه.
فركب المحتسب إلى الأمير الكبير وأعلمه بقول المرأة، فضرب الأمير الكبير ابن الفيشي بالمقارع، وضرب المرأة بالعصّي نحواً من ستمائة ضربة، وأمر بهما فسُمِّرا على جملين، وشُهَّرا بالقاهرة. فكان يوما شنيعاً، عظم فيه بكاء الناس على المرأة، وكثُر دعاؤهم على المحتسب !.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المحتسب: من كان يتولى منصب الحسبة، وهو متصرف على شؤون العامة من مراقبة الأسعار والموازين، ورعاية الآداب، وأحوال المدارس ... الخ.
في شهر رجب من سنة 781 هجرية، اتفقت حادثة مستغربة: وهي أن رجلاً يعرف بابن الفيشي دخل إلى منزله بالقرب من الجامع الأزهر، فسمع صوتاً من جدار بيته يقول له:
اِتقِ الله وعاشر زوجتك بالمعروف !
فظنَّ أن هذا من الجان، فإنه لم ير شيئاً. وحدّث أصحابه بذلك، فصاروا معه إلى بيته، فسمعوا الكلام من الجدار. فسألوا عما بدا لهم، فأجابهم المتكلم من غير أن يروا شيئاً. فغلب على ظنهم أن هذا من الجان، وأشاعوه في الناس، فارتجَّت القاهرة ومصر، وأقبل الناس من كل جهة إلى بيت ابن الفيشي لسماع كلام الحائط، وصاروا يحادثون الحائط ويحادثهم. فكثر بين الناس قولهم:
يا سلام سلِّم، الحائط بيتكلم!
وكاد الناس أن يفتتنوا بهذا، وجلبوا إلى ذلك الجدار من المال شيئا كثيرا.
فركب محتسب القاهرة(1)محمود العجمي إلى بيت ابن الفيشي هذا ليختبر ما يقال، ووكَّلَ با بن الفيشي أحدَ أعوانه. ووقف عند الحائط وحدّثه فحادثه. فأمر بهدم الحائط. فلما ير شيئا. فعاد إلى بيته وقد كثر تعجّبه.
وازدادت فتنة الناس بالحائط. وبعث المحتسب من يكشف له الخبر:
هل انقطع الكلام بعد تخريب الحائط؟ فوجده الرجلُ يتكلم كما كان قبل خرابه.
فتحيّر من ذلك. وكان هذا المحتسب شهماً جريئاً، قد مارس الأمور، وحلب الدهر أشطُره. وكان لا يتحرك حركة إلا حُمد عليه، ولا باشر جهة وقْْفٍ إلا عَمُر خرابُه، وإذا باشر حسبة القاهرة رخصت الأسعار، فإذا عُزِل ارتفعت، فتقف العامة وتطلب إعادته ليُمْن إقباله.
فلما عاد قاصده إليه، وأخبره بأن الكلام مستمّر، قام من فوره ومعه عدة من أصحابه حتى جلسوا عند الجدار، وأخذوا في قراءة شيء من القرآن، ثم طلب صاحب البيت وقال له:
قل لهذا المتكلم، القاضي العجمي يسلم عليك.
فقال: يا سيدي، الشيخ القاضي يسلم عليك.
فقال الجدار: وعليه السلام ورحمة اللّه وبركاته.
فقال المحتسب: قل له، إلى متى هذا الفساد؟
فأجابه: إلى أن يريد اللّه تعالى.
فقال: قل له هذا الذي تفعله فتنة للناس، وما هو جيد.
فأجابه:
ما بقي بعد هذا كلام.
وسكت، وهم يقولون له: يا سيدي الشيخ! فلم يكلمهم بعدها.
وكان في صوته غلظة يوحي بأنه ليس كلام إنس. فلما أيس الشيخ العجمي من مكالمته، قام عنه وقد اشتدت فتنة الناس بالحائط حتى كانوا يتخذوه معبودا لهم. وغلوا فيه كعادتهم، وزعموا له ما شاءوا من تُرَّهاتهم، وحمل إليه الأمراء والأعيان المأكل وغيره، والمحتسب يدّبر في كشف الحيلة.
ثم ركب المحتسب يوما إلى دار ابن الفيشي، وقبض عليه وعلى امرأته، وعاد بهما إلى داره. ومازال يستدرجهما حتى اعترفت المرأة بأنها هي التي كانت تتكلم، وأن الذي دعاها إلى ذلك أن زوجها كان يسيء عشرتها، فاحتالت عليه بهذه الحيلة لتوهمه بأن الجان توصيه بها. فتمت حيلتها عليه، وانفعل لها، فأعلمته بما كان منها، فرأى زوجها أن تستمر على ذلك لينالا به جاهاً ومالاً، فوافَقَتْه.
فركب المحتسب إلى الأمير الكبير وأعلمه بقول المرأة، فضرب الأمير الكبير ابن الفيشي بالمقارع، وضرب المرأة بالعصّي نحواً من ستمائة ضربة، وأمر بهما فسُمِّرا على جملين، وشُهَّرا بالقاهرة. فكان يوما شنيعاً، عظم فيه بكاء الناس على المرأة، وكثُر دعاؤهم على المحتسب !.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المحتسب: من كان يتولى منصب الحسبة، وهو متصرف على شؤون العامة من مراقبة الأسعار والموازين، ورعاية الآداب، وأحوال المدارس ... الخ.